فصل: تفسير الآية رقم (23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (23):

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)}
{إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} قد تقدم تفسيرها {الغافلات} عما يرمين به عنى أنه لم يخطر لهن ببال أصلًا لكونهم مطبوعات على الخبر مخلوقات من عنصر الطهارة ففي هذا الوصف من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس في المحصنات {المؤمنات} أي المتصفات بالايمان بكل ما يحب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانًا حقيقيًا تفضيليًا كما ينبئ عنه تأخير المؤمنات عما قبلها مع أصالة وفي الايمان فإنه للإيذان بأن المراد بها المعنى الوصفي المعرب عما ذكر لا المعنى الإسمي المصحح لإطلاق الاسم في الجملة كما هو المتبادر على تقدير التقديم كذا في إرشاد العقل السليم.
وفرع عليه كون المراد بذلك عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وروى ما ظاهره ذلك عن ابن عباس. وابن جبير، والجمع على هذا باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين لاشتراك الكل في النزاهة والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظير ذلك جمع {المرسلين} في قوله سبحانه وتعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} [الشعراء: 105] وقيل: المراد أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولًا أوليًا. وروى ما يؤيده عن أبي الجوزاء. والضحاك وجاء أيضًا عن ابن عباس ما يقتضيه، فقد أخرج عند سعيد بن منصور. وابن جرير. والطبراني. وابن مردويه أنه رضي الله تعالى عنه قرأ سورة النور ففسرها فلما أتى على هذه الآية {إِنَّ الذين} إلخ قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة ثم قرأ {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إلى قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} [النور: 4، 5] الخبر، وظاهره أنه لا تقبل توبة من قذف إحدى الأزواج الطاهرات رضي الله تعالى عنهن.
وقد جاء عنه في بعض الروايات التصريح بعدم قبول توبة من خاض في أمر عائشة رضي الله تعالى عنها، ولعل ذلك منه خارج مخرج المبالغة في تعظيم أمر الإفك كما ذكرنا أولًا وإلا فظاهر الآيات قبول توبته وقد تاب من تاب من الخائضين كمسطح. وحسان. وحمنة ولو علموا أن توبتهم لا تقبل لم يتوبوا، نعم ظاهر هذه الآية على ما سمعت من المراد من الموصوف بتلك الصفات كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنه لأن الله عز وجل رتب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين فقال سبحانه: {لُعِنُواْ} أي بسبب رميهم إياهن {فِى الدنيا والاخرة} حيث يلعنهم اللاعنون والملائكة في الدارين {وَلَهُمْ} مع ما ذكر من اللعن {عَذَابٌ عظِيمٌ} هائل لا يقادر قدره لغاية عظم ما اقترفوه من الجناية.
وكذا ذكر سبحانه أحوالًا مختصة بأولئك فقال عز وجل:

.تفسير الآية رقم (24):

{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بما كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)}
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} إلخ، ودليل الاختصاص قوله سبحانه: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء الله} [فصلت: 19] إلى آخر الآيات الثلاث، ومن هنا قيل: إنه لا يجوز أن يراد بالمحصنات إلخ المتصفات بالصفات المذكورة أمهات المؤمنين وغيرهن من نساء الأمة لأنه لا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر، والذي ينبغي أن يعول الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين بعد نزول الآيات وتبين أنهن طيبات سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلى الله عليه وسلم أم لم يستبح ولم يقصد، ولم يقصد، وأما من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقًا غير ظاهر.
والظاهر أنه يحكم بكفره إن كان مستبيحًا أو قاصدًا الطعن به عليه الصلاة والسلام كابن أبي لعنه الله تعالى فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسان. ومسطح. وحمنة فإن الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين ولا قاصدين الطعن بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين وإنما قالوا ما قالوا تقليدًا فوبخوا على ذلك توبيخًا شديدًا، ومما يدل دلالة واضحة على عدم كفر الرامين قبل بالرمي أنه عليه الصلاة والسلام لم يعاملهم معاملة المرتدين بالإجماع وإنما أقام عليهم حد القذف على ما جاء في بعض الروايات، فالآية بناء على القول بخصوص {المحصنات} وهو الذي تعضده أكثر الروايات إن كانت لبيان حكم من يرمي عائشة أو إحدى أمهات المؤمنين مطلقًا بعد تلك القصة كما هو ظاهر الفعل المضارع الواقع صلة الموصول فأمر الوعيد المذكور فيها على القول بأنه مختص بالكفار والمنافقين ظاهر لما سمعت من القول بكفر الرامي لإحدى أمهات المؤمنين بعد مطلقًا، وإن كانت لبيان حكم من رمى قبل احتاج أمر الوعيد إلى القول بأن المراد بالموصول أناس مخصوصن رموا عائشة رضي الله تعالى عنها استباحة لعرضها وقصدًا إلى الطعن برسول الله صلى الله عليه وسلم كابن أبي وإخوانه المنافقين عليهم اللعنة، وعلى هذا يكون التعبير بالمضارع لاستحضار الصورة التي هي من أغرب الغرائب أو للإشارة كما قيل إلى أن شأنهم الرمي وأنه يتجدد منهم آنًا فآنًا. وعلى هذا يمكن أن يقال. المراد بيان حكم من لم يتب من الرمي فإن التائب من فعل قلما يقال فيه إن شأنه ذلك الفعل فيكون الوعيد مخصوصًا بمن لم يتب.
والذي تقتضيه الأخبار أن كل من وقع في تلك المعصية تاب سوى اللعين ابن أبي وأشياعه من المنافقين. وعن ابن عباس أنها نزلت فيه خاصة ولا يخفى وجه الجمع عليه، وقيل المراد بيان حكم من رمى والوعيد مشروط بعدم التوبة ولم يذكر للعلم به من القواعد المستقرة إذا لذنب كيفما كان يغفر بالتوبة، فلا حاجة إلى أن يقال: المراد إن الذين شأنهم الرمي ليشعر بعدم التوبة، والظاهر أن من لم يتب بعد نزول هذه الآيات كافر وليس هو إلا اللعين وأشياعه المنافقين.
واختار جمع وقال النحاس: هو أحسن ما قيل أن الحكم عام فيمن يرمي الموصوفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة، ورميهن إن كان مع استحلال فهو كفر فيستحق فاعله الوعيد المذكور إن لم يتب على ما علم من القواعد؛ وإن كان بدون استحلال فهو كبيرة وليس بكفر، ويحتاج في هذا إلى منع اختصاص تلك العقوبات والأحوال بالكفار والمنافقين أو التزام القول بأن ذلك ثابت للجنس ويكفي فيه ثبوته لبعض أفراده ولا شك أن فيها من يموت كافرًا. وفي البحر يناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا: خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني، ويؤيده قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ} إلخ اه.
وأنت تعلم أن الأوفق بالسياق والسباق ما عليه الأكثر من نزولها في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وحكم رمي مسائر أمهاتهم حكم رميها وكذا حكم رمي سائر أزواج الأنبياء عليهم السلام وكذا أمهاتهم، وعندي أن حكم رمي بنات النبي عليه الصلاة والسلام كذلك لاسيما بضعته الطاهرة الكريمة فاطمة الزهراء صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم ولم أر من تعرض لذلك فتدبر، واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين تحقق موته على الكفر إن لم يتضمن إيذاء مسلم أو ذمي إذا قلنا باستوائه مع المسلم في حرمة الإيذاء أما إن تضمن ذلك حرم.
ومن الحرام لعن أبي طالب على القول وته كافرًا بل هو من أعظم ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه، ثم إن لعن من يجوز لعنه لا أرى أنه يعد عبادة إلا إذا تضمن مصلحة شرعية، وأما لعن كافر معين حي فالمشهور أنه حرام ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة وسؤال ذلك كفر؛ ونص الزركشي على ارتضائه حيث قال عقبه: فتفطن لهذه المسألة فإنها غريبة وحكمها متجه وقد زل فيه جماعة، وقال العلامة ابن حجر في ذلك: ينبغي أن يقال إن أراد بلعنه الدعاء عليه بتشديد الأمر أو أطلق لم يكفر وإن أراد سؤال بقائه على الكفر أو الرضا ببقائه عليه كفر: ثم قال: فتدبر ذلك حق التدبر فإنه تفصيل متجه قضت به كلماتهم اه.
وكلعن الكافر الحي المعين بالشخص في الحرمة لعن الفاسق كذلك، وقال السراج البلقيني: يجوز لعن العاصي المعين واحتج على ذلك بحديث الصحيحين:«إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح» وهو ظاهر فيما يدعيه؛ وقول ولده الجلال البلقيني في بحثه معه: يحتمل أن يكون لعن الملائكة لها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا: لعن الله من دعاها زوجها إلى فراشه فأبت فبات غضبان بعيد جدًا. ومما يؤيد قول السراج خبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال: «لعن الله من فعل هذا» وهو أبعد عن الاحتمال الذي ذكره ولده، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال: «اللهم العن رعلًا. وذكوان. وعصية عصوا الله تعالى ورسوله» وفيه نوع تأييد لذلك أيضًا، لكن قيل: إنه يجوز أن يكون قد علم عليه الصلاة والسلام موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن صلى الله عليه وسلم إلا من علم موته عليه، ولا يخفى عليك الأحوط في هذا الباب، فقد صح «من لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه» وأرى الدعاء للعاصي المعني بالصلاح أحب من لعنه على القول بجوازه، وأرى لعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوصف أو بالشخص عبادة من حيث أن فيه اقتداءً برسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذا لعن من لعنه الله تعالى على الوجه الذي لعنه سبحانه به، هذا وقوله عز وجل: {يَوْمَ تَشْهَدُ} إلخ إما متصل بما قبله مسوق لتقرير العذاب العظيم بتعيين وقت لحلوله وتهويله ببيان ظهور جناية الرامين المستتبعة لعقوباتها على كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات فيوم ظرف لما في {لَهُمْ} [النور: 23] من معنى الاستقرار لا لعذاب كما ذهب إليه الحوفي لما في جواز إعمال المصدر الموصوف من الخلاف، وقيل: لإخلاله بجزالة المعنى وفيه نظر، وأما منقطع عنه على أنه ظرف لا ذكر محذوفًا أو لـ {يوفيهم} [النور: 25] الآتي كما قيل بكل، واختير أنه ظرف لفعل مؤخر وقد ضرب عنه الذكر صفحًا للإيذان بأن العبارة لا تكاد تحيط بتفصيل ما يقع فيه من العظائم والكلام مسوق لتهويل اليوم بتهويل ما يحويه كأنه قيل: يوم تشهد عليهم {أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بما كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يظهر من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال على أن الموصول المذكور عبارة عن جميع أعمالهم السيئة وجناياتهم القبيحة لا عن جناياتهم المعهودة فقط.
ومعنى شهادة الجوارح المذكورة بها أنه عز وجل ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها لا أن كلاف منها يخبر بجنايتهم المعهودة فحسب. والموصول المحذوف عبارة عنها وعن فنون العقوبات المترتبة عليها كافة لا عن إحداهما خاصة ففيه من ضروب التهويل بالإجمال والتفصيل ما لا مزيد عليه قاله شيخ الإسلام، ثم قال: وجعل الموصول المذكور عبارة عن جنايتهم المعهودة وحمل شهادة الجوارح على إخبار الكل بها فقط تحجير للواسع وتهوين للأمر الرادع.
والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على هاتيك الأعمال في الدنيا وتجددها منهم آنًا فآنًا. وتقديم {عَلَيْهِمْ} على الفاعل للمسارعة إلى كون الشهادة ضارة لهم مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر اه ولا يخلو عن حسن.
وجوز أن تكون الشهادة بما ذكر مجازًا عن ظهور آثاره على هاتيك الأعضاء بحيث يعلم من يشاهدهم ما عملوه وذلك بكيفية يعلمها الله تعالى. واعترض بأنه معارض بقوله تعالى: {أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء} [فصلت: 21].
وأجيب بأن مجوز ما ذكر يجعل النطق مجازًا عن الدلالة الواضحة كما قيل به في قولهم نطقت الحال أو يقول: هذا في حال وذاك في حال أو كل منهما في قوم.
ولا يخفى أن الظاهر بقاء الشهادة على حقيقتها إلا أنه استشكل ذلك بأنه حينئذٍ يلزم التعارض بين ما هنا وقوله تعالى في سورة يس: {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} [يس: 65] الآية لأن الختم على الأقواه ينافي شهادة الألسن.
وأجيب بأن المراد من الختم على الأفواه منعهم عن التكلم بالألسنة التي فيها وذلك لا ينافي نطق الألسنة نفسها الذي هو المراد من الشهادة كما أشرنا إليه فإن الألسنة في الأول آلة للفعل وفي الثاني فاعلة له فيجتمع سبحانه الذراع المسموم ناطقًا متكلمًا حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مسموم. وللمعتزلة في ذلك كلام، وقيل في التوفيق يجوز أن يكون كل من الختم والشهادة في موطن وحال، وأن يكون الشهادة في حق الرامين والختم في حق الكفرة، وكأنه لما كانت هذه الآية في حق القاذف بلسانه وهو مطالب معه بأربعة شهداء ذكر فيها خمسة أيضًا وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه جزاءً له من جنس عمله قاله الخفاجي وقال: إنها نكتة سرية والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر.
وقرأ الأخوان. والزعفراني. وابن مقسم. وابن سعدان {يَشْهَدُ} بالياء آخر لحروف ووجهه ظاهر. وقوله تعالى: